فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (198):

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما فهم من هذا الحث على الإكثار من الزاد تحركت نفوس أولي الهمم الزاكية القابلة للتجرد عن الأعراض الفانية إلى السؤال عن المتجر لإنفاقه في وجوه الخير هل يكره في زمان أو مكان لاسيما عند تذكر أن أناسًا كانوا في الجاهلية يكرهون التجارة للحاج فأجيب بقوله معلمًا أن قطع العلائق لمن صدق عزمه وشرفت همته أولى: {ليس عليكم جناح} أي إثم في {أن تبتغوا} أي تطلبوا بجد واجتهاد {فضلًا} أي إفادة بالمتجر في مواسم الحج وغيرها {من ربكم} المحسن إليكم في كل حال فلا تعتمدوا في الفضل إلا عليه، وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت عكاظُ وَمَجِنَّةُ وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية فتأثموا أن يتَّجروا في المواسم فنزلت {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم} في مواسم الحج. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}.
جملة معترضة بين المتعاطفين بمناسبة النهي عن أعمال في الحج تنافي المقصد منه فنقل الكلام إلى إباحة ما كانوا يتحرجون منه في الحج وهو التجارة ببيان أنها لا تنافي المقصد الشرعي إبطالًا لما كان عليه المشركون، إذ كانوا يرون التجارة للمُحْرم بالحج حرامًا. فالفضل هنا هو المال، وابتغاء الفضل التجارة لأجل الربح كما هو في قوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} [المزمل: 20]. وقد كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من سوق ذي المجاز إلى مكة حرم عندهم البيع والشراء قال النابغة:
كادَتْ تُسَاقِطُني رَحْلي ومِيثَرَتِي ** بذِي المجاز ولم تُحسس به نَغَما

من صَوْتتِ حِرْمِيَّةٍ قالتْ وقد ظعنوا ** هل في مُخِفِّيكُمُ مَنْ يشتري أَدَما

قلتُ لهَا وهي تَسْعَى تحتَ لَبَّتِها ** لا تَحْطِمنَّككِ إن البيعَ قد زَرِما

أي انقطع البيع وحَرُم، وعن ابن عباس: كانت عكاظ ومَجَنَّة، وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية فتأَثَّمُوا أنْ يَتَّجِرُوا في المواسم فنزلت: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم في موسم الحج} اهـ. أي قرأها ابن عباس بزيادة في مواسم الحج. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الشبهة كانت حاصلة في حرمة التجارة في الحج من وجوه:
أحدها: أنه تعالى منع عن الجدال فيما قبل هذه الآية، والتجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة بسبب المنازعة في قلة القيمة وكثرتها، فوجب أن تكون التجارة محرمة وقت الحج وثانيها: أن التجارة كانت محرمة وقت الحج في دين أهل الجاهلية، فظاهر ذلك شيء مستحسن لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى، فوجب أن لا يتلطخ هذا العمل منه بالأطماع الدنيوية وثالثها: أن المسلمين لما علموا أنه صار كثير من المباحات محرمة عليهم في وقت الحج، كاللبس والطيب والاصطياد والمباشرة مع الأهل غلب على ظنهم أن الحج لما صار سببًا لحرمة اللبس مع مساس الحاجة إليه فبأن يصير سببًا لحرمة التجارة مع قلة الحاجة إليها كان أولى ورابعها: عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بسائر الطاعات فضلًا عن المباحات فوجب أن يكون الأمر كذلك في الحج فهذه الوجوه تصلح أن تصير شبهة في تحريم الاشتغال بالتجارة عند الاشتغال بالحج، فلهذا السبب بين الله تعالى هاهنا أن التجارة جائزة غير محرمة، فإذا عرفت هذا فنقول: المفسرون ذكروا في تفسير قوله: {أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مّن رَّبّكُمْ} وجهين الأول: أن المراد هو التجارة، ونظيره قوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20] وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] ثم الذي يدل على صحة هذا التفسير وجهان الأول: ما روى عطاء عن ابن مسعود وابن الزبير أنهما قرآ: {أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مّن رَّبّكُمْ في مواسم الحج} والثاني: الروايات المذكورة في سبب النزول.
فالرواية الأولى: قال ابن عباس: كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع والشراء بالكلية، وكانوا يسمون التاجر في الحج: الداج ويقولون: هؤلاء الداج، وليسوا بالحاج، ومعنى الداج: المكتسب الملتقط، وهو مشتق من الدجاجة، وبالغوا في الإحتراز عن الأعمال، إلى أن امتنعوا عن إغاثة الملهوف، وإغاثة الضعيف وإطعام الجائع، فأزال الله تعالى هذا الوهم، وبين أنه لا جناح في التجارة، ثم أنه لما كان ما قبل هذه الآية في أحكام الحج، وما بعدها أيضًا في الحج، وهو قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} دل ذلك على أن هذا الحكم واقع في زمان الحج، فلهذا السبب استغنى عن ذكره.
والرواية الثانية: ما روي عن ابن عمر أن رجلًا قال له إنا قوم نكري وإن قومًا يزعمون أنه لا حج لنا، فقال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت ولم يرد عليه حتى نزل قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} فدعاه وقال: أنتم حجاج وبالجملة فهذه الآية نزلت ردًا على من يقول: لا حج للتجار والأجراء والجمالين.
والرواية الثالثة: أن عكاظ ومجنة وذا المجاز كانوا بتجرون في أيام الموسم فيها، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يتجرون في الحج بغير إذن، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
والرواية الرابعة: قال مجاهد: إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ولامنى، فنزلت هذه الآية.
إذا ثبت صحة هذا القول فنقول: أكثر الذاهبين إلى هذا القول حملوا الآية على التجارة في أيام الحج، وأما أبو مسلم فإنه حمل الآية على ما بعد الحج، قال والتقدير: فاتقون في كل أفعال الحج، ثم بعد ذلك {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مّن رَّبّكُمْ} ونظيره قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10].
واعلم أن هذا القول ضعيف من وجوه أحدها: الفاء في قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} يدل على أن هذه الإفاضة حصلت بعد انتفاء الفضل، وذلك يدل على وقوع التجارة في زمان الحج وثانيها: أن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لاعلى موضع الشبهة ومعلوم أن محل الشهبة هو التجارة في زمن الحج، فأما بعد الفراغ من الحج فكل أحد يعلم حل التجارة.
أما ما ذكره أبو مسلم من قياس الحج على الصلاة فجوابه: أن الصلاة أعمالها متصلة فلا يصح في أثنائها التشاغل بغيرها، وأما أعمال الحج فهي متفرقة بعضها عن بعض، ففي خلالها يبقى المرء على الحكم الأول حيث لم يكن حاجًا لا يقال: بل حكم الحج باق في كل تلك الأوقات، بدليل أن حرمة التطيب واللبس وأمثالهما باقية، لأنا نقول: هذا قياس في مقابلة النص فيكون ساقطًا.
القول الثالث: أن المراد بقوله تعالى: {أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مّن رَّبّكُمْ} هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجًا أعمالًا أخرى تكون موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وهذا القول منسوب إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام، واعترض القاضي عليه بأن هذا واجب أو مندوب، ولا يقال في مثله: لا جناح عليكم فيه، وإنما يذكر هذا اللفظ في المباحات.
والجواب: لا نسلم أن هذا اللفظ لا يذكر إلا في المباحات والدليل عليه قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} [النساء: 101] والقصر بالاتفاق من المندوبات، وأيضًا فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن ضم سائر الطاعات إلى الحج يوقع خللًا في الحج ونقصًا فيه، فبين الله تعالى أن الأمر ليس كذلك بقوله: {لا جناح عَلَيْكُمْ}. اهـ.

.قال في البحر المديد:

{ليس عليكم جناح} أي: إثم أو ميل عن الصواب، في {أن تبتغوا فضلًا من ربكم} أي: عطاء ورزقًا تستفيدونه من التجارة في مواسم حجكم، إذا خلَصَتْ نيتكم، وغلب قصدُ الحج على التجارة.
وها هنا قاعدةٌ ذكرها الغزالي في الإحياء وحاصلها: أن العمل إذا تمحَّض لغير الله فهو سبب المقت والعقاب، وإذا تمحض الله خالصًا فهو سبب القرب والثواب، وإذا امتزج بشوْب من الرياء أو حظوظ النفس فينظر إلى الغالب وقوة الباعث؛ فإن كان باعث الحظ أغلب، سقط، وكان إلى العقوبة أقرب، لكن عقوبته أخف ممن تجرد لغير الله، وإن كان باعث التقرب أغلب، حُط منه بقدر ما فيه من باعث الحظ، وإن تساوي تقاومًا وتساقطًا وصار العمل لا له ولا عليه.
ثم قال: ويشهد لهذا إجماعُ الأمة على أن مَنْ خرج حاجًّا ومعه تجارة صحَّ حجه وأُثيب عليه. ثم قال: والصواب أنْ يقال: مهما كان الحج هو المحرّك الأصلي، وكان غرضُ التجارة كالتابع، فلا ينفك نفس السفر عن ثواب، ثم طُرِّد هذا الاعتبار في الجهاد باعتبار الغنيمة، يعني: يُنْظر لغالب الباعث وخُلوص القصد، وكذلك الصوم للحِمْية والثواب، ينظر لغالب الباعث.
قلت: وتطَّرد هذه القاعدة في المعاملات كلها، وجميع الحركات والسكنات والحِرَف وسائر الأسباب، فالخالص من الحظوظ مقبول، والمتمحض للحظوظ مردود، والمَشُوب يُنظر للغالب كما تقدم.
وقد ذكر شيخ المشايخ سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه قاعدة أخرى أدقّ من هذه فقال: إذا أكرم الله عبدًا في حركاته وسكناته، نصَب له العبودية لله وستر عنه حظوظ نفسه، وجعله يتقلّب في عبوديته، والحظوظ عنه مستورة، مع جَرْي ما قُدِّر له، ولا يلتفت إليها؛ لأنها في معزل عنه، وإذا أهان الله عبدًا في حركاته وسكناته، نصب له حظوظ نفسه، وستر عنه عبوديته، فهو يتقلّب في شهواته، وعبودية الله عنه بمعزلِ، وإن كان يجري عليه شيء منها في الظاهر، قال: وهذا باب من الولاية والإهانة.
وأما الصّدّيقية العظمى، والولاية الكبرى، فالحظوظ والحقوق كلها سواء عند ذوى البصيرة لأنه باللّه فيما يأخذ ويترك. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان الاستكثار من المال إنما يكره للشغل عن ذكر الله سبب عنه الآمر بالذكر في قوله: {فإذا} أي فاطلبوا الفضل من ربكم بالمتجر {أفضتم} أي أوقعتم الإفاضة، ترك مفعوله للعلم به أي دفعتم ركابكم عند غروب الشمس ففاضت في تلك الوهاد كما يفيض الماء المنساب في منحدر الشعاب، وأصل الإفاضة الدفع بكثرة {من عرفات} الجبل الذي وقفتم فيه بباب ربكم الموقف الأعظم الذي لا يدرك الحج إلا به من معنى التعرف لما تقدمته نكرة، وليست تاؤه للتأنيث فتمنعه الصرف بل هي علامة جمع المؤنث، قاصدي المبيت بالمزدلفة، وهو علم على الموقف سمي بجمع {فاذكروا الله} ذا الجلال لذاته بأنواع الذكر {عند} أي قريبًا من {المشعر} أي المعلم ولما كان بالحرم، قال: {الحرام} وهو الجبل المسمى قزح، وهو من الشعور وهو خفي الإدراك الباطن فالموقف الأول آية على نغوض الدنيا ومحوها وزوالها، والثاني دال بفجره وشمسه على البعث لمجازاة الخلائق بأعمالها؛ والتعبير بعند للإعلام بأن مزدلفة كلها موقف غير محسر فإنها كلها تقاربه، ويفهم ذلك صحة الوقوف عليه بطريق الأولى. قال الحرالي: وذلك حظ من الوقوف هنيهة وقت في البلد الحرام عند إقبال النهار معادلة للوقوف بعرفة من الحل إلى إقبال الليل ليتثنى الوقوف في الحل والحرم. فكان فيه موقف نهار ينتهي إلى الليل في عرفة وموقف ليل ينتهي إلى النهار في المشعر؛ فوقف فيه صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس، وهو ذكره عنده، لأن الذكر بحسب الذاكر، فذكر اللسان القول، وذكر البدن العمل، وذكر النفس الحال والانفعال، وذكر القلب المعرفة والعلم واليقين ونحو ذلك، ولكل شيء ذكر بحسبه؛ وفي جمع الموقفين في الحل والحرم في معلم الحج الذي هو آية الحشر إيذان وبشرى بأن أهل الموقف صنفان: صنف يقفون في موطن روع ومخافة وقوفًا طويلًا اعتبارًا بوقوف الواقفين بعرفة من حين زوال الشمس إلى غروبها ست ساعات، وصنف حظهم من الوقوف قرار في أمنة ظل العرش الذي هو حرم يوم القيامة وكعبته فتشعر خفة الوقوف بالمشعر الحرام أن أمد طول ذلك اليوم يمر على المستظلين بظل العرش فيه كأيسر مدة كما قال عليه الصلاة والسلام بمقدار صلاة مكتوبة، فكان في ذلك فضل ما بين موقف الحرم على موقف الحل انتهى. اهـ.